عادة، تحتوي الطائرة على صندوقين أسودين يقعان في
الجزء الأمامي والخلفي من الطائرة، وتعمل هذه الصناديق على تتبع بيانات الرحلة التي تساعد في إعادة بناء تسلسل أحداث تحطم الطائرة.
وفي حال وقوع حادث طائرة، يكون استرجاع الصندوق الأسود أولوية للمحققين لتحديد سبب الحادث.
على الرغم من أنه يُعرف عادةً بالصندوق الأسود، إلا أن مسجل بيانات
الطيران لونه في الواقع برتقالي زاهٍ.
فقد نشأ مصطلح الصندوق الأسود في
بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية، عقب تطوير الراديو والرادار والأدوات الملاحية الإلكترونية في الطائرات القتالية
البريطانية والحليفة.
وكانت هذه الأجهزة الإلكترونية السرية غالبًا مغلفة في صناديق معدنية مطلية بطلاء أسود غير عاكس، لحماية المعدن ومنع الصدأ.
وعندما فرضت الدول الرائدة في
الطيران استخدام FDRs عام 1967، تم اتخاذ قرار بتغيير لونها إلى البرتقالي الزاهي ليكون من السهل التعرف عليها في موقع الحادث، ولكن
بقي اسمه "الصندوق الأسود".
ويصنع الصندوق الأسود من مادة التيتانيوم، ما يمنحه القوة للنجاة من أي صدمة إذا سقط في الماء أو من ارتفاع كبير.
استعمل الصندوق الأسود من الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية – "ترافل تومورو"
ويعتبر العالم الأسترالي ديفيد وارن مخترع أول مسجلات بيانات
الطيران والصوت، ولكن تم تقديم تصاميم سابقة من قبل فرانسوا هوسينو وبول بودوان في مركز اختبار
الطيران مارينيان في فرنسا عام 1939.
وعام 1947، أسس هوسينو شركة Société Française des Instruments de Mesure مع بودوان وشريك آخر لتسويق اختراعه، الذي كان يُعرف أيضًا باسم "الهوسينوغراف".
وأصبحت هذه الشركة موردًا رئيسيًا لمسجلات البيانات، التي تستخدم ليس فقط على متن الطائرات بل أيضًا على متن القطارات والسفن والمركبات الأخرى.
وخلال الحرب العالمية الثانية، طور لين هاريسون وفيك هاسبند في المملكة المتحدة، تصميمًا آخر من مسجلات بيانات الطيران، مما وضع الأساس للصناديق السوداء الحديثة.
فقد كان نموذجهم قادرًا على تحمل الحوادث والحرائق للحفاظ على بيانات
الطيران سليمة، بحيث يمكنه تحمل ظروف لا يستطيع الطاقم الجوي تحملها.
يمكن سحب البيانات من الصندوق الأسود رغم تحطمه – "ترافل تومورو"
وبعد بضع سنوات وتحديدًا عام 1942، أنشأ مهندس
الطيران الفنلندي فيجو هيتالا أول FDR حديث، والذي أطلق عليه اسم "ماتا هاري".
وكان هذا الصندوق الميكانيكي الأسود عالي التقنية، قادرًا على تسجيل جميع التفاصيل المهمة أثناء اختبارات
الطيران للطائرات المقاتلة الفنلندية.
وحتى الخمسينيات من القرن العشرين، كانت أجهزة تسجيل بيانات الطائرات تستخدم بشكل أساسي في الطائرات العسكرية.
ديفيد وارن يصمم أول جهاز تسجيل بيانات للطائرات المدنية – "ترافل تومورو"
وفي عام 1958، قام ديفيد وارن ببناء أول جهاز تسجيل مدمج لبيانات الرحلة ومسجل صوت قمرة القيادة (CVR)، وتم تصميمه مع مراعاة تصميم الطائرات المدنية لأغراض التحقيق ما بعد التحطم.
ووفق موقع "ترافل تومورو" كانت أستراليا أول دولة تجعل الصناديق السوداء إلزامية على الطائرات، وذلك بعد تحطم رحلة خطوط "ترانس أستراليا" الجوية رقم 538 عام 1960.
وبعد 4 سنوات فقط، أقرت الولايات المتحدة القواعد الأولى التي تتطلب من جميع الطائرات ذات التوربينات والمكبس المزودة بأربعة محركات أو أكثر، أن تحتوي على مسجلات فيديو رقمية (CVR) بحلول عام 1967.
وبحلول ذلك العام، جعلت معظم الدول حول العالم أجهزة FDR/CVR إلزامية، في صناديقها البرتقالية الزاهية الموجودة في ذيل الطائرة، حيث تكون لديها أفضل فرصة للبقاء سليمة في حالة وقوع حادث، ولا تزال موجودة على هذا الحال لغاية اليوم.
في المقابل، سلط اختفاء رحلة الخطوط الجوية الماليزية رقم 370 في آذار 2014 الضوء على الحاجة إلى تحسين الصناديق السوداء.
فعلى الرغم من وجود نظام تحديد المواقع تحت الماء، إلا أنه لم يتم العثور على الطائرة المنكوبة أو صندوقها الأسود أبدًا.
وأدى ذلك إلى مطالبة السلطات بالبث المباشر للبيانات من الطائرة إلى مراكز المراقبة، كما طلب الخبراء تطوير أجهزة تحديد المواقع تحت الماء لتتمتع بعمر بطارية أطول ونطاق أوسع.
علاوة على ذلك، طالب الخبراء بوضع جهاز تسجيل احتياطي يتم إخراجه من الطائرة قبل الاصطدام.
مكونات معقدة.. كيف ينجو من التلف؟
يتكون "الصندوق الأسود" من مسجليْن أحدهما نظري والآخر رقمي، لتوثيق كافة البيانات والمعلومات الخاصة بالرحلة، وظروفها والعوائق التي تعرضت لها من بدايتها وحتى نهايتها، ومع تشابههما في الهيكل الخارجي فهما مختلفان في التركيب والوظيفة.
ف
الصندوق الأسود الأول المسمى "مسجل الطائرة" (يُعرف اختصارا بـDFDR) يبلغ طوله 0.5 متر، وعرضه 0.13 متر، وارتفاعه 0.18 متر، وهو مصنوع من مادة التيتانيوم لمنع خرقه أو اهتزازه حفاظا على المعلومات المسجلة فيه وحدة ذاكرته، كما يمكنه مقاومة حرارة تصل إلى 1100 درجة مئوية مدة 30 دقيقة.
ويستطيع هذا الصندوق تسجيل نحو 3000 نوع من المعلومات والبيانات في وقت واحد عبر أجهزة رصد للمعلومات موجودة داخل الطائرة، ولديه قدرة على مواصلة التسجيل لمدة أكثر من 25 ساعة.
ووظيفة هذا الصندوق هي حفظ البيانات الرقمية الخاصة بالطائرة، مثل: الوقت، والسرعة أثناء الطيران، والاتجاه في خط السير، والارتفاع، ودرجة الحرارة خارج الطائرة، ووضع الطائرة في الجو، ووضعية الطيار الآلي، وسرعة الهبوط.
أما
الصندوق الأسود الثاني المسمى "مسجل الصوت" (يُعرف اختصارا بـCVR) فيحتوي على شرائح لتسجيل كل المحادثات التي تدور داخل قمرة قيادة الطائرة بين قائد الطائرة وأفراد طاقمه، أو بينه وبين أبراج المراقبة، وترصد أي أصوات تحدث في كابينة الركاب.
ويبدأ تسجيله منذ تشغيل الشبكة الكهربائية للطائرة وحتى توقفها عن العمل، بما في ذلك ذبذبات تردد 400 ميغاهيرتز الصادرة عن هذه الشبكة التي تبلغ قوتها 28 فولتاً، وأصوات مراوح التبريد والاهتزازات الضعيفة.
والصندوقان -اللذان يقدر
حجم كل منهما بحجم
صندوق الأحذية تقريبا، ويزن نحو عشرة كيلوغرامات- مجهزان بجهاز بث يعمل عندما يغوص الصندوقان في الماء حال سقوط الطائرة في البحر، إذ يطلق ذبذبات ضوئية عالية التردد للمساعدة في تحديد مكانيهما لمدة 30 يوم من سقوط الطائرة بالماء، وهي المدة التي تعمل فيها بطاريات الصندوقين قبل أن تتوقف عن العمل بسبب انقطاع الطاقة.
وللصندوقين قدرة على تسجيل ما يتراوح بين 30 و120 ساعة، لكن بعد وقوع الحادث الجوي فإنهما يحتفظان فقط بآخر ساعتين من عمر الرحلة المنكوبة. ويقوم مسجل اتصالات قمرة القيادة بحذف كل البيانات المسجلة إلا الساعتين الأخيرتين من فترة التسجيل، لأن
الجزء الأخير من الرحلة هو الذي يحدد عادة سبب تحطم الطائرة.
وتُحفظ أجهزة التسجيل الخاصة بالصندوقين في قوالب متينة مصنوعة من التيتانيوم ومحاطة بمواد عازلة تتحمل الصدمات الشديدة والضغط العالي حتى عمق 6000 متر تحت الماء، وحرارة الحريق بما يفوق ألف درجة مئوية، كما أنها لا تتأثر بملوحة مياه البحر التي تسبب التآكل لكثير من المعادن. وتخضع هذه الأجهزة لاختبارات كثيرة للتأكد من تحملها لكافة الظروف القاسية المتوقعة.
في حالة تحطم الطائرة على اليابسة، قد تتأثر قدرة الصندوق الأسود على إرسال الإشارات بسبب التضاريس أو الحطام، مما يجعل عملية العثور عليه أكثر تحديًا. ومع ذلك، فإن الصندوق مصمم لتحمل الصدمات والظروف القاسية، ويظل سليمًا في معظم الحالات، مما يسمح للمحققين باستخراج البيانات الضرورية.
فوائد أخرى للصندوق
بعيداً عن الحوادث التى تتعرّض لها الطائرات، للصندوق الأسود أهمية كبيرة، اذ تقوم المعاهد الملاحية للطيران بدراسة البيانات المتوافرة للوقوف على أداء الطيارين والتعرّف على نقاط الضعف والقوة، للارتقاء بقدراتهم الملاحية كما تقوم أقسام هندسة
الطيران فى الشركات والمعاهد العلمية برصد أداء الطائرات للوقوف على المشكلات وتحسين مستوى الصيانة، وتقوم شركات صناعة الطائرات بدراسة البيانات للحفاظ على مستوى السلامة فى الطائرات الحديثة والقديمة، ويستعين خبراء الأرصاد بالمعلومات الموجودة بالصندوق الرقمى، لأنها تقدم معلومات دقيقة عن الظواهر الجوية الخطرة، مثل المطبات الجوية والانفجارات الهوائية الصغيرة.