قديما كانت
العراق بالنسبة لبريطانيا بقعة مركزية لقربها من الهند درة التاج البريطاني، ولأنها أقرب المناطق الواصلة بين أوروبا من جهة وجنوب شرق آسيا من جهة أخرى، فضلا عن مركزيتها بين إيران ووسط آسيا من جانب، والعالم
العربي في الخليج وبلاد الشام ومصر من جانب آخر، وهي أيضًا منطقة تقاطع للمصالح الروسية والغربية.
وحديثًا حرصت
إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب على إسقاط نظام الرئيس
العراقي الراحل صدام حسين مع تيقنها أنه بات يهدد المصالح الأميركية والإسرائيلية في الإقليم، وكان من اللافت أن مهمة السيطرة على البصرة واحتلالها عام 2003 قد أُسندت للقوات البريطانية، وذلك لسابق خبرتها في احتلال
المدينة في الأيام الأولى من الحرب العالمية الأولى 1914.
العراق في الإستراتيجية البريطانية
قبل سقوط الدولة العثمانية عام 1923، بل وقبل نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914، كان البريطانيون يدرسون
العراق من الناحية الجغرافية والديمغرافية، حيث أرسلوا بعثة عام 1834 لدراسة صلاحية أنهار
العراق للملاحة، وأثبتت هذه البعثة صلاحية نهر دجلة لملاحة السفن التجارية والقوارب التي يبلغ غاطسها من متر إلى متر وربع ويكون عُمق مجرى النهر حوالي 5.75 أمتار، وعرض النهر من 200 إلى 300 متر.
وفي عام 1906 زمن السلطان عبد الحميد انبثقت فكرة احتلال
مدينة البصرة في أقصى الجنوب العراقي، وذلك للضغط على الدولة العثمانية، ولكن مجلس الدفاع الإمبراطوري البريطاني رفض هذه الفكرة، ثم عادت حكومة الهند البريطانية بطرحها مرة أخرى عام 1912، ولما أخذ الوضع في أوروبا إلى التأزم الشامل، واشتعال الحرب العالمية الأولى كانت
العراق من أول أقاليم الدولة العثمانية التي أصر البريطانيون على الهجوم عليها.
هدف البريطانيون من احتلال
العراق إلى تقويض الدولة العثمانية وإسقاطها، ومنع سيطرة الألمان -حلفاء العثمانيين- عليها واحتمالية هجومهم على مصالحهم في المنطقة، ولكن اكتشاف النفط في منطقة عبادان -التي كانت تخضع لإمارة المحمرة قبل السيطرة الإيرانية عليها 1925- جعلت
العراق في موقع إستراتيجي كبير، وكانت حماية تلك الحقول التي يسيطر عليها الإنجليزُ من جملة الأسباب التي تذرّعت بها بريطانيا عند احتلال البصرة.
فقد دعا الفريق
الأول سير إدمون باور السكرتير العسكري لوزارة الهند البريطانية عشية الحرب العالمية الأولى إلى توجيه قوة عسكرية إلى المحمّرة وعبادان قائلا "حيث مراكز النفط والتجهيزات في عبادان وحقول النفط مُعرضة للتدمير المباشر، وإن المصالح البريطانية في بغداد والبصرة ستزول من الوجود، وإن شيخي المحمّرة والكويت ربما يُهاجمان.. وفي هذه الحالة سنُبدد في الهواء كل مكانتنا وكل جهودنا لسنين، وسيغدو موقفنا في الخليج نفسه متقلقلا".
الفاو وشط العرب في القبضة البريطانية
هذا التقدير العسكري شديد الخطورة على المصالح البريطانية في المنطقة، دفع الحكومة في لندن إلى إرسال قوة عسكرية إلى الخليج
العربي في 2 نوفمبر/تشرين الثاني، أُسندت قيادة القوات البريطانية إلى العميد دبليو ديلامين، وحُدد إطار عمل هذه القوة باحتلال عبادان وحماية مصالح النفط وخط الأنابيب وتغطية إنزال الإمدادات، و"الظهور للعرب بأننا نعتزم مساعدتهم ضد الأتراك" على حد وصف تقرير حكومة الهند البريطانية.
وبعد 3 أيام أعلنت الدولة العثمانية -التي كان يسيطر عليها ضباط جمعية "الاتحاد والترقي" والذين انقلبوا على السلطان عبد الحميد الثاني- انضمامها رسميًا إلى ألمانيا في حربها، ومن ثم تغيرت وجهة القوات البريطانية القادمة من الهند وتقرر أن يكون الإنزال البريطاني في البحرين بدلا من عبادان أو المحمرة.
وعُين السير برسي كوكس ضابطا سياسيا في الغزو البريطاني، وهو واحد من أكثر الضباط خبرة بالخليج والعراق، ومن ثم صدرت التعليمات إلى العميد ديلامين للتوجه نحو الفاو جنوب
العراق بقواته، وزوّد بالمعلومات اللازمة للمنطقة من حيث الجغرافيا وتوزيع العشائر والقوات العثمانية وتمركزاتها.
انطلقت القوات البريطانية من البحرين وأتمت عملية الإنزال في شاطئ الفاو على شط العرب في ساعة متأخرة من يوم 6 نوفمبر/تشرين الثاني 1914م، ورُفع عليها العلم البريطاني بعد معركة سريعة اضطر الجنود العثمانيون عقبها إلى الانسحاب شمالا، وبهذا تمكنت بريطانيا من السيطرة على مدخل شط العرب.
وحين علمت القوات العثمانية في البصرة باحتلال شط العرب وقرب مجيء البريطانيين للمدينة عملت على الاستعداد للمقاومة، لكن ووفقًا لكتاب "تاريخ
العراق المعاصر" فإن حركة القوات العثمانية كانت "غير مدروسة بل مليئة بالأخطاء سواء في شكل التقدم أو في التعبئة والتموين، ولم تُقدم الاستخبارات العثمانية أي معلومات لقائد القوة عن الموقع البريطاني، ولم تكن لديه خريطة للمنطقة، فالقيادة العثمانية اعتمدت على الارتجالية دون التخطيط والحسابات العسكرية الدقيقة".
كان مجموع القوات البريطانية التي احتلت الفاو يُقدر بحوالي 4558 جنديًا، و173 ضابطًا و12 مدفعًا، أما القوات العثمانية الموجودة في البصرة يوم إعلان الحرب فكان لا يتجاوز أفرادها 3 آلاف مقاتل، وكانت الخطط العسكرية والإمدادات البريطانية مبنية على حسابات دقيقة، وتقديرات جيدة منذ بداية تحركها من الهند.
وعقب معركة الفاو السريعة والخاطفة، استطاع البريطانيون احتلال السيبة التي تقع على مسافة 45 كيلومترا شمال الفاو، وفي هذه الأثناء استطاعت بريطانيا أن تستميل أهم شيوخ المنطقة وأكثرهم نفوذًا وهو شيخ المحمرة خزعل الكعبي إلى جانبها من خلال الوعود والمغريات، حيث منحته 3000 بندقية ومليون طلقة، وأكدت له أن الغاية المتوخاة من دخول القوات البريطانية هي فتح شط العرب للتجارة الدولية بين بلاده والخارج، وأن هدف الحرب القضاء على النفوذ العثماني، وتحرير العرب.
في المقابل لم تقف القوات العثمانية مكتوفة الأيدي، ففي ليلة 10-11 نوفمبر/تشرين الثاني شنت وبدعم من المتطوعين من أبناء العشائر ممن وزعت عليهم البنادق هجوما على مواقع البريطانيين، الذين استطاعوا صد هذا الهجوم وعملوا هجوما معاكسا أدى لانسحاب العثمانيين شمالا.
وأدت هذه المعركة إلى مقتل القائد العثماني تحسين أفندي و37 جنديًا آخرين، فضلا عن وقوع 22 جريحا، وفي المقابل سقط 5 من الإنجليز صرعى مع ضابطين.
انسحبت القوات العثمانية لقرية تُسمّى سيحان والتي تقع على مسافة 7 كيلومترات شمال منطقة السيبة، وفي يوم 14 نوفمبر/تشرين الثاني وصلت 17 باخرة بريطانية محمّلة بالجنود بقيادة الجنرال آرثر باريت فأصبح العميد ديلامين تحت إمرته، وبهذا ارتفع عدد القوات البريطانية إلى ما يناهز الفرقة.
وحين استلم الجنرال باريت قيادة القوات البريطانية جاءته برقية من حكومة الهند فيها "ليكن هدفك البصرة، فإذا رأيتَ بعد تبادل الرأي مع ديلامين، وإذا كانت القوة التي لديك كافية فعليك بالتوجه إليها".
أمام هذه التطورات وتقدّم القوات البريطانية نحو السيبة وسيحان، ومجيء مدد كبير إليهم، اقترح وكيل والي البصرة العقيد صبحي بك، وهو قائد عسكري أيضًا داخل
المدينة على الشيخ خزعل الكعبي أن يسمحَ لقوة كبيرة من الجنود العثمانيين بالدخول إلى مناطق جزيرة دبا وأم الرصاص الخاضعة لنفوذه متنكرين، ثم يبدؤون بالهجوم على السفينة الحربية البريطانية سبيجل التي كانت راسية في نهر الكارون، ولكن الشيخ خزعل رفض هذا الاقتراح.
بل إنه أرسل إلى القوات البريطانية بما كان يخطط إليه العثمانيون وأماكن تموضعهم الحالية في سيحان، فأصدر الجنرال بارت أوامره إلى ديلامين بالهجوم على العثمانيين والعشائر العربية المتحالفة معهم، وبدأ الهجوم البريطاني على قرية سيحان في يوم 17 نوفمبر/تشرين الثاني من البر ومن النهر.
وبعد مقاومة استمرت يومين أو 3، اضطرت القوات العثمانية إلى الانسحاب من القرية، وسقط فيها 50 قتيلا من العثمانيين، و25 أسيرًا، بينما قتل من البريطانيين 60 عسكريا.
ومن اللافت أن قوات المتطوعين العرب الذين شاركوا القوات العثمانية في هذه المعارك كانوا من الشيعة والسُّنة، فقد اتحدوا مع العثمانيين في مواجهة الاحتلال البريطاني والدفاع عن أرضهم، حتى إن كبار المراجع الشيعية في آنذاك أصدروا بيانا جاء فيه "وجوب الدفاع عن بيضة الدين، ووجوب الجهاد إلى صف الدولة العثمانية"، كما يذكر أحمد باش أعيان في "موسوعة تاريخ البصرة".
معركة كوت الزين وسقوط البصرة
وبلغ مجموع العشائر العربية في مناطق البصرة التي وقفت بجوار الدولة العثمانية قرابة ثلث القوات المشاركة، وفي نفس يوم انسحاب العثمانيين من سيحان هاجم البريطانيون منطقة كوت الزين وهي ساحل البصرة ودارت معركة قوية بين الجانبين، أبلى العثمانيون وأبناء العشائر العربية دورًا كبيرًا في مقاومة البريطانيين، ولكن عدم التكافؤ العسكري والمادي والتخطيطي بين الجانبين جعل الكفة تميل ناحية البريطانيين من جديد.
وقد ذكر المراسل الحربي المرافق للقوات البريطانية إدموند كاندلر تفاصيل الدفاع المستميت للقوات العثمانية، قائلا "كانت معركة الساحل -ويقصد كوت الزين جنوب البصرة- تحمل في طياتها دلائل بارزة، لأن الأتراك كانوا في موقف قوي بعد أن اتحدوا في قُوة كبيرة تُقدر بـ5 آلاف رجل و12 مدفعا، لمواجهة قواتنا التي شنّت هجومًا بِلواءين وبطاريتي ميدان جَبليتين وسَريتين من سلاح الفرسان وسَريتي إزالة الألغام".
وتابع كاندلر "ولمواجهة الزخم الشديد للمعركة أصدر ديلامين أمرًا بالتصدي للعدو، بينما اشتبك اللواء الثامن عشر باستبسال مع قوات العدو، مما اضطر القائد إلى إطلاق النار على طول الجبهة من أجل تشتيت قوات العدو التي قاتلت ظهر اليوم، وإننا واجهنا صعوبة بسبب وعورة الأرض والإعاقات الكثيرة للعدو".
وبحسب الباحث جعفر عبد الدائم المنصور في دراسته "معارك ساحل البصرة في الحرب العالمية الأولى" فإن القوات العثمانية قاتلت قتال الأبطال في هذه المعركة بفعل الحماس الديني والدوافع الوطنية، "حتى وصف لنا أحد سكّان المنطقة أن والده شاهد بعض جثث القتلى من الجانب العثماني وقد كانت أرجلهم مثنية ومربوطة بحبل، وذلك لكي يمنع نفسه من الهرب والتراجع في حال اشتد القتال، وقد آلَ على نفسه إما النصر وإما الشهادة".
بلغ عدد الشهداء من الأتراك والعرب في هذه المعركة المئات، حيث فقدت العشائر العربية نحو 220 شهيدًا وقيل أكثر من ذلك، وفقدت القوات العثمانية 150 شهيدًا، ونحو 400 جريح، بينما فقد البريطانيون 54 قتيلا و435 جريحًا، أما عدد الأسرى من الأتراك والعرب فلم يُعرف على وجه الدقة حيث اقتادهم البريطانيون إلى الهند.
بعد معركة كوت الزين أصبح الطريق إلى البصرة مفتوحًا أمام البريطانيين عقب انسحاب القوات العثمانية المتبقية نحو القرنة شمالا، وبالفعل دخل البريطانيون البصرة بعد 4 معارك منها معركتان كبيرتان في سيحان وكوت الزين، ورُفع العلم البريطاني على سطح أحد المباني يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1914م.
وأصر البريطانيون على احتلال القرنة لأهميتها الإستراتيجية فعندها يلتقي دجلة والفرات، وحولها مناطق زراعية شديدة الخصوبة، وأصبح جنوب
العراق كله في قبضة البريطانيين.
وكشفت هذه الانتصارات البريطانية السريعة عن الخلل الكبير الذي أصاب القوات العثمانية أثناء هذه المعارك، حيث استطاع البريطانيون احتلال البصرة في غضون أسبوعين فقط، وبعد 4 معارك خاطفة، في المقابل ركز العثمانيون اهتمامهم على الجبهات الأوروبية والروسية وغيرها، وكان ضعف وجودهم في
العراق عاملا مغريا لنزول الإنجليز وسهولة احتلالهم هذه المنطقة.
كما أن عدم تعاون شيخ المحمرة وتحالفه مع البريطانيين أدى إلى إعاقة عمل المقاومة العثمانية والعربية في المنطقة، ولا شك أن البريطانيين عملوا منذ وقت مبكر على توثيق عرى الصداقة معه وإغرائه بالمال والسلاح، ولكن بريطانيا نفسها هي التي دعمت شاه إيران محمد رضا بهلوي وحرضته على القضاء على إمارة المحمرة واحتلالها في أبريل/نيسان 1925م، ووقع خزعل الكعبي في الأسر، وقُتل في قصر حاكم طهران 1936.