كان فكره جامعا متأثرا بتيارات عدة، وهذا ما أثر على دعوته ودولته لاحقا، إذ كان ذا توجه سني أشعري كما يظهر في عقيدته "المرشدة" الشهيرة، وصاحب نزعة فقهية "سلفية" بإنكاره التقليد والتمذهب الفروعي.
المولد والنشأة
اسمه الأصلي محمد بن عبد الله بن وجليد بن يامصال، واشتهر فيما بعد باسم "المهدي بن تومرت"، وتختلف المصادر التاريخية حول تاريخ ميلاده، لكنها ترجح أن ولادته كانت حوالي سنة 480 هجرية، الموافق 1077 ميلادية، في قبيلة هرغة إحدى قبائل المصامدة من الأمازيغ الموجودة بين جبال الأطلس الصغير في منطقة سوس جنوب المغرب.
اتصف ابن تومرت منذ صغره بالورع والتقوى وشغفه بالعلم والمعرفة، والتزامه بأداء واجباته الدينية حتى لقب بـ"أسافو"، التي تعني بالأمازيغية المشعل أو الضياء، بعدما اشتهر وهو صغير السن بمواظبته على إيقاد القناديل في المسجد من أجل الصلاة والقراءة.
لا تكشف المصادر التاريخية عن معلومات كثيرة حول ظروف نشأة ابن تومرت وأسرته، باستثناء أن والده هو عبد الله الملقب بـ"تومرت"، والذي كان يحمل أيضا اسم أمغار (كلمة أمغار تعني كبير القوم بالأمازيغية) كما يحكي عن ذلك ابن خلدون، وأن أمه كانت تسمى بأم الحسين، وكان له 3 إخوة ذكور هم أبو موسى عيسى وأبو محمد عبد العزيز وأبو العباس أحمد الكفيف، وأخت واحدة هي زينب أم أبي بكر.
حسب المؤرخ المغربي أبي بكر بن علي الصنهاجي، المشهور بالبيدق، أحد تلامذة ابن تومرت وأنصار دعوته، فإنه عند ولادة والد تومرت (عبد الله) فرحت به أمه بشكل كبير وبدأت تردد عبارة "آتومرت إينو إيسك آييوي"، والتي تعني باللسان الأمازيغي "يا فرحتي بك يا بني".
وحتى عندما كانت تسأل عنه وهو صغير كانت تقول "إيك تومرت" أي أصبح فرحا ومسرورا، وهكذا حتى التصقت به كلمة "تومرت".
*الدراسة والتكوين العلمي
حفظ ابن تومرت القرآن كاملا وهو لا يزال في سن مبكرة في مسقط رأسه بمناطق سوس بالمغرب، كما استطاع تحصيل عدد من العلوم والمعارف وهو طفل صغير، وبعد ذلك انطلق في رحلة علمية طويلة بدأها في أواخر القرن الخامس وبدايات القرن السادس الهجري من بلاد الأندلس، حيث تتلمذ على يد عدد من العلماء أمثال القاضي ابن حمدين -أحد
أكبر علماء الأندلس في ذلك الوقت- وأمضى هناك فترة قصيرة درس فيها المدرسة الحزمية (مذهب ابن حزم) في الفقه والعقيدة.
بعدها توجه ابن تومرت صوب المشرق لاكتساب مزيد من العلوم والمعارف، وكانت البداية من مصر التي استقر بها لفترة زمنية بالإسكندرية، حيث كان يواظب على محاضرات الإمام أبي بكر الطرطوشي.
استكمل ابن تومرت رحلته العلمية نحو الحجاز وبلاد الشام ثم العراق، ودرس فيها على يد عدد من العلماء الكبار. وظل على هذه الحال في طلب
العلم حتى أصبح "بحرا متفجرا من
العلم وشهابا واريا من الدين"، كما وصفه العلامة ابن خلدون.
خلال هذه الرحلة الطويلة تسنى لابن تومرت رؤية مظاهر الضعف والفقر اللذين كانت تعيشهما المنطقة العربية، وتشكلت لديه صورة سيئة عن الأوضاع التي يعيشها المسلمون في بلاد الخلافة العباسية، وكذلك الأراضي التي كانت تابعة للدولة الفاطمية على مستوى شمال أفريقيا وشبه الجزيرة العربية. الأمر الذي حدا به إلى تبني منهج إصلاحي والتفكير في إقامة
دولة إسلامية أكثر قوة.
وبعد رحلة علمية امتدت لسنوات، قرر المهدي بن تومرت العودة إلى مسقط رأسه بالمغرب، واستغرقت رحلة العودة حوالي 4 سنوات عاش فيها ابن تومرت عددا من الوقائع والأحداث، فقد طرد من عدة مدن كالإسكندرية وطرابلس والمهدية بأفريقية (تونس) بسبب مواقفه ضد بعض السلوكيات التي كانت سائدة فيها وكان يرى أنها تخالف الشرع.
فقد كسّر آلات الطرب والموسيقى وفرق مجالس اللهو، كما دخل في مواجهة مع ركاب السفينة التي كان على متنها قادما من الإسكندرية كما تروي بعض المصادر، الأمر الذي ألّب عليه الفقهاء والناس والسلطان.
وعن هذه الرحلة يقول المؤرخ المغربي عبد الله العروي في كتابه "مجمل تاريخ المغرب" إن ابن تومرت "لم يكتسب معلومات فقهية أو كلامية جديدة، بقدر ما اكتسب حنكة سياسية وتعلم كيف يجب أن يترجم عقيدته الدينية إلى دعوة سياسية".
وبعد وصوله إلى المغرب بدأ المهدي بن تومرت في حشد أتباعه ومناصريه واختيار الأشخاص الذين سيكونون أساس الدعوة إلى منهجه ومشروعه السياسي. وحينما دخل فاس كسّر مع أصحابه الآلات الموسيقية كالدفوف والعيدان، التي تستعمل في الضرب على الطبول، ودخل في مواجهات مع الناس والسلطات والفقهاء أيضا، وعاب وذمّ المرابطين فيها، حيث رأى أنه يجب أن "يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر".
وكان معه 7 من الأصحاب حينها هم: "عبد المؤمن بن علي الكومي (الخليفة الأول لدولة الموحدين) وعبد الواحد الشرقي والحاج عبد الرحمان والحاج يوسف الدكالي وأبو بكر الصنهاجي (المعروف بالبيدق) وعمر بن علي وعبد الحق بن عبد الله".
التجربة السياسية والعملية:
مخالفة المرابطين
اتجه ابن تومرت بعد فاس إلى مدينة مراكش، وسرعان ما دخل في مواجهات مع الناس والسلطة الحاكمة أيضا، إذ روي عنه أنه وبّخ أخت الأمير المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين حينما كانت مع مجموعة من النساء وهن سافرات يمتطين دوابهن، فنهرها بسبب تبرجها وفرق أتباعه موكبهن حتى سقطت الأميرة عن جوادها. كما أغلظ القول للأمير وسط الناس داخل المسجد، فقرر الأمير دعوة كبار فقهاء
الدولة المرابطية لمناظرة ابن تومرت في القصر.
اجتمع كبار فقهاء المرابطين آنذاك وفي مقدمتهم قاضي مراكش مالك بن وهيب الأندلسي وبدؤوا مناظرة ابن تومرت البارع في الجدل بحكم ثقافته الواسعة الجامعة بين الثقافتين المشرقية والمغربية، ما جعله يتفوق عليهم ويفحم فقهاء آخرين.
غير أن مالك بن وهيب اعتبر أن ابن تومرت يخطط لمشروع سياسي مناهض للدولة المرابطية، وأنه لم يكن مجرد داعية يأمر بـ"المعروف وينهى عن المنكر"، لذا طلب من الأمير قتله لأنه كما قال "رجل مفسد لا تؤمن غائلته ولا يسمع كلامه أحد إلا مال إليه، وإن وقع هذا في بلاد المصامدة ثار علينا منه شر كثير"، لكن الأمير عليا بن يوسف رفض هذا الطلب.
بعد هذه المناظرة قرر ابن تومرت مخالفة المرابطين ومعاكسة نهجهم متبعا "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" كما يراه، فبدأ في محاربة الاختلاط بين الرجال والنساء ومنع شرب الخمر بحكم أن هاتين الممارستين كانتا شائعتين في بلاد المغرب آنذاك، كما كان يكسر الآلات الموسيقية التي كان يستعملها الناس في مجالس اللهو والطرب.
هذا الأمر أغضب الأمير عليا بن يوسف فطرده من مراكش، واتجه ابن تومرت برفقة أتباعه صوب منطقة أغمات، وأعلنوا هناك خلعهم مبايعة علي بن يوسف بن تاشفين ثم شرعوا في حشد مزيد من الأتباع الذين اقتنعوا بدعوته.
ولتحقيق هدفه بإقامة
دولة إسلامية قوية، أعلن ابن تومرت أنه ينتسب لآل البيت وأنه سليل الحسين بن علي حفيد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه المهدي المنتظر الذي تتحدث عن ظهوره بعض الأحاديث النبوية.
وكان يعمل على جمع الناس حوله ويذكر لهم المهدي ونسبه وصفاته على أنه "رجل معصوم من الخطأ سيظهر في آخر الزمان ليقيم الحق ويملأ الأرض عدلا"، كما كان يسرد لهم الأحاديث التي تتحدث عنه ويشوقهم إليه، ولما أقرّ فضيلة المهدي في نفوسهم قال إنه المهدي المنتظر، ورفع نسبه إلى آل البيت فاقتنع كثير من الناس بمهدويته وبايعوه على ذلك.
لكن هذا الأمر الذي جادل في صحته عدد من الباحثين، كالمؤرخ المصري محمد عبد الله عنان، الذي قال في كتاب "دولة الإسلام في الأندلس" إن ما أقره ابن تومرت عن نفسه ما هو إلا "ثوب مستعار كان يقصد من ورائه دعم صفة المهدي التي انتحلها شعارا لإمامته ورياسته".
لكن العالم والمؤرخ المغربي أبو الحسن علي بن القطان الفاسي، المعروف بابن قطان والذي كان مقربا من سلاطين
الدولة الموحدية، أيّد انتساب المهدي بن تومرت لآل البيت.
وكان لابن تومرت ذكاء كبير مكّنه من وضع خطط دقيقة سمحت له باستقطاب عدد من القبائل، من ذلك أنه استخدم الأشخاص الذين كانوا يعملون معه في نشر دعوته ليكونوا عيونا له داخل القبائل ويخبروه بأخبارهم.
كما حارب القبائل التي كانت ترفض دعوته ودخل مع بعضها في "حركة تطهيرية" سميت بحركة "التمييز" قتل فيها آلافا من الأشخاص الذين كان يشك في ولائهم وإخلاصهم له، ما جعله يدخل في صراعات واصطدامات مباشرة مع
الدولة المرابطية التي كانت تحكم المغرب آنذاك.
مواجهة المرابطين
بعد أغمات توجه ابن تومرت إلى موقع "تنمل" الحصين بجبال الأطلس الكبير، نظرا لأهمية هذا المكان الإستراتيجي آنذاك، ووجوده على خط التماس مع مراكش عاصمة
الدولة المرابطية، وشرع في تجهيز جيشه للقضاء على
دولة المرابطين.
كان ابن تومرت يعمل على واجهتين متلازمتين: الواجهة الأولى هي القضاء على كل أشكال "البدع ومظاهر الفساد" في مقابل نشر تعاليم "الدين الإسلامي الصحيح" حسب رأيه، فيما كانت الواجهة الثانية هي التأسيس لدولة إسلامية قوية على أنقاض
دولة المرابطين بعد وفاة زعيمها وأميرها يوسف بن تاشفين سنة 500هـ.
وقد نجح ابن تومرت في تأسيس تيار إصلاحي جديد أسماه "مذهب التوحيد"، دوّنه في رسالته المعروفة في علم التوحيد وأصول الدين بـ"العقيدة والمرشدة"، أو في كتاب "أعز ما يطلب" الذي حوى تعاليم وأفكار ابن تومرت الدينية.
واستنادا إلى اسم مذهبه اشتق اسم دولته التي أسسها فيما بعد "دولة الموحدين"، وجعل منهج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلا لمذهبه ونقطة انطلاق في نشر دعوته، ولذلك كان يقوم بمحاربة عدد من السلوكيات التي كانت سائدة بين الناس في عهد
الدولة المرابطية كالاختلاط ومظاهر اللهو والطرب وغيرها، كما بدأ يقلل من قيمة الفقهاء والعلماء ويحط من شأنهم حتى يتيسر له تأصيل عقيدته ونشرها بالطريقة التي تخدم أهدافه ومشروعه السياسي.
استطاع نشر مذهبه "التوحيدي" تحت لواء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشرع في تأسيس دولته الموحدية عن طريق القتال ضد المرابطين الذين أسماهم بـ"المارقين المبدّلين الذين تسموا بالمرابطين".
وتحكي المصادر التاريخية أن ابن تومرت لم يشارك في القتال ضد المرابطين، وإنما احتفظ لنفسه بالزعامة الروحية فقط، وفوّض إلى عبد المؤمن بن علي الكومي أقرب أصحابه مهمة الزعامة العسكرية، بعدما حثه على الصبر والثبات ووعده بالنصر والتمكين.
معركة البحيرة
بعدما قويت شوكة الموحدين أمر ابن تومرت أتباعه بقيادة عبد المؤمن بن علي الكومي بالاتجاه نحو عاصمة
الدولة المرابطية مراكش لمواجهة المرابطين، وجهز لذلك جيشا ضخما بلغ تعداده 40 ألف رجل.
استطاع الموحدون إلحاق عدة هزائم بالمرابطين في معارك متفرقة، منها موقعة تاغزوت ومكدار وأهل أغمات، حينما كانوا في طريقهم نحو مراكش ووصلوا سريعا إلى مشارف المدينة.
ولمواجهتهم جهّز الأمير المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين من جانبه جيشا جرارا فاق جيش الموحدين عددا وعتادا، والتقى الجيشان يوم 11 أبريل/نيسان 1130 في موقع يسمى البحيرة على مشارف مدينة مراكش، وهو الموقع الذي أخذت منه المعركة اسمها.
وقد أبلى المرابطون في هذه المعركة بلاء حسنا، وألحقوا هزيمة نكراء بجيش الموحدين الذين قتل منهم الكثير، وأرغموا بذلك على الانسحاب والعودة إلى موقع تينمل.
وبعد هذه الهزيمة اشتد المرض على المهدي بن تومرت وتدهور وضعه الصحي وكانت سببا رئيسيا في نهاية حياته بعد 3 أشهر من المعركة.
استخلاف عبد المؤمن
قبل وفاته بأيام قليلة جمع محمد بن تومرت أصحابه كي يعلن لهم استخلافه لعبد المؤمن بن عليّ الكومي أميرا عليهم، ولم يكن حينها عبد المؤمن قد تجاوز الثلاثين من عمره لكنه كان يمتاز بذكاء خارق وبراعة كبيرة في تنظيم جيش الموحدين وإدارته. وهو ما مكّنه بعد ذلك من تحقيق إنجازات كبرى أسهمت في تقوية
دولة الموحدين.
فبدأ بمهاجمة المرابطين واستولى على عدد من المناطق بعدما قاد حملة توسعية كبرى باتجاه شمال المغرب الأقصى حتى وصل إلى مدينة سبتة ثم ندرومة في منطقة تلمسان، وبعدها مدينة وهران التي واجه فيها جيش المرابطين قبل أن يتجه غربا للاستيلاء على مدينتي مكناس وفاس ليصل أخيرا إلى مدينة مراكش عاصمة المرابطين، التي حاصرها لأيام قبل أن يدخلها عام 541هـ الموافق 1146م.
وقال ابن تومرت في خطبته التي كانت آخر خطبه "إن الله سبحانه -له الحمد- منَّ عليكم -أيتها الطائفة- بتأييده وخصَّكم من بين أهل هذا العصر بحقيقة توحيده".
وأضاف "وقد اخترنا لكم رجلا منكم وجعلناه أميرا عليكم، هذا بعد أن بلَوْناه في جميع أحواله من ليله ونهاره ومدخله ومخرجه واختبرنا سريرته وعلانيته، فرأيناه في ذلك كله ثابتا في دينه متبصرا في أمره، وإني لأرجو ألا يُخْلِف الظن فيه وهذا المشار إليه هو: عبد المؤمن فاسمعوا له وأطيعوا ما دام سامعا مطيعا لربه، فإن بدَّل أو نكص على عقبه أو ارتاب في أمره ففي الموحِّدين -أعزهم الله- بركة وخير كثير والأمر أمر الله يقلِّده من شاء من عباده".
واستمر حكم عبد المؤمن بن علي الكومي أميرا لدولة الموحدين 34 سنة بعدما ورث من ابن تومرت
حركة دينية سياسية ناشئة وحولها إلى
دولة قوية مترامية الأطراف شملت المغرب كله وشمال الجزائر وتونس وشمالي ليبيا ونصف بلاد الأندلس، واعتبرت فترة حكمه من أزهى الفترات السياسية التي عاشها المغرب.
*الوفاة
تختلف المصادر التاريخية في تحديد التاريخ الذي توفي فيه المهدي بن تومرت، لكن آراء المؤرخين تقدر أنه توفي وعمره يتراوح ما بين 50 أو 55، وقيل إن وفاته كانت حوالي سنة 525 هجرية، الموافق لـ1131 ميلادية، بعدما ألمّ به المرض لشهور قليلة إثر معركة البحيرة سنة 1130م، ويوجد ضريحه بالمسجد الأعظم بمدينة تنمل التاريخية.