وحتى تتضح الصورة أكثر، شهد العالم أجمع، منذ عام 1950، 487 انقلاباً، سواء كان ناجحاً أو فاشلاً، كان
نصيب القارة السمراء وحدها ما يقرب من النصف، إذ شهدت 215 محاولة انقلاب، آخرها في النيجر يوم الأربعاء 26 يوليو/تموز 2023.
وعلى الرغم من أن قارة
أمريكا اللاتينية هي الأخرى شهدت عدداً كبيراً من الانقلابات العسكرية بلغ 146 انقلاباً، إلا أن الظاهرة تراجعت ويمكن القول إنها اختفت تقريباً منذ عقود، عكس ما يحدث في القارة السمراء، فما أسباب استمرار تفشي هذا "الوباء" حتى اليوم؟
الفقر وارتباطه بالانقلابات العسكرية
"أصبحت الانقلابات العسكرية حول العالم مرتبطة بشكل متزايد بالفقر، وما تشهده قارة إفريقيا من
عودة لافتة لتلك الانقلابات يؤكد هذا الارتباط"، هكذا وصف الباحث الأمريكي جوناثان باول، الذي أعد مع زميله كلايتون ثين، دراسة بالأرقام بشأن الانقلابات العسكرية حول، وثَّقا من خلالها بعضاً من أبرز أسباب الانقلابات حول العالم.
تلك الدراسة، التي نشرت نتائجها في فبراير/شباط 2022 من خلال موقع VOA (فويس أوف أمريكا)، ألقت الضوء على كيف أن العالم، في أغلب مناطقه، قد تجاوز مرحلة الانقلابات العسكرية إلى حد كبير واتخذ مساراً ديمقراطياً، وإن بدرجات متفاوتة وأنماط تنفيذ متنوعة، باستثناء القارة السمراء.
وكانت جميع مناطق العالم قد شهدت انقلابات عسكرية، حتى أوروبا شهدت 17 انقلاباً، منها 8 انقلابات ناجحة، إلا أن
القرن الحادي والعشرين شهد انحساراً لافتاً لظاهرة الانقلابات في جميع قارات الدنيا باستثناء قارة إفريقيا، وجاء عام 2021 ليشهد
عودة "غريبة" لتلك الظاهرة، إذ شهدت القارة 4 انقلابات عسكرية في غينيا والسودان ومالي وتشاد، ثم جاء انقلاب النيجر، سواء نجح أو فشل في نهاية المطاف، ليؤكد على أن زمن الانقلابات لا يزال أمراً واقعاً في القارة السمراء، عكس باقي مناطق العالم.
ويرى بعض المراقبين أن الفقر والظروف الاقتصادية الصعبة ونقص البرامج التنموية الحقيقية أحد الأسباب وراء تفشي ظاهرة الانقلابات في القارة، ومن هؤلاء سولومون دريسو، مؤسس ومدير "أماني إفريقيا" وهو معهد بحثي مقره أديس أبابا يبحث في شؤون القارة ومرتبط بالاتحاد الإفريقي.
يرى دريسو، بحسب موقع UNdispatch، أنه منذ تأسيس الاتحاد الإفريقي عام 2002 تراجع عدد الانقلابات العسكرية في القارة بشكل لافت، مرجعاً أسباب
عودة ظاهرة الانقلابات في بداية العقد الثالث من
القرن الحادي والعشرين بصورة كبيرة إلى تفشي جائحة كورونا وتداعياتها الصحية والاقتصادية، التي رفعت من نسب الفقر والعوز في إفريقيا وبخاصة في منطقة الصحراء الكبرى، حيث وقعت الانقلابات الأخيرة.
ومن بين دول القارة الـ54، شهدت 45 دولة إفريقية انقلاباً عسكرياً واحداً على الأقل منذ عام 1950 حتى الآن، وشهدت 36 دولة منها انقلابات ناجحة، أي نجاح من نفذوا الانقلاب في البقاء في السلطة لمدة 7 أيام على الأقل، وهو ما يعني أن ثلثي دول إفريقيا شهدت استيلاء العسكر على السلطة، على الأقل مرة واحدة خلال تلك الفترة.
ويأتي السودان على رأس قائمة الدول الإفريقية التي شهدت أكبر عدد من الانقلابات، حيث شهد 17 محاولة انقلابية، 8 منها كانت ناجحة، وآخرها انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021، الذي نفذه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وحليفه وقتها محمد حمدان دقلو قائد ميليشيات الدعم السريع، قبل أن يختلفا معاً ويتحول صراعهما على السلطة إلى حرب أهلية مدمرة اندلعت 15 أبريل/نيسان الماضي، ولا تزال رحاها مشتعلة تأتي على الأخضر واليابس.
الاستعمار وصراع القوى الكبرى
على الرغم من أن حقبة الاستعمار الغربي المباشر للقارة السمراء قد انتهت منذ أكثر من 70 عاماً، إلا أن كثيراً من المراقبين يرون أن ما زرعه ذلك الاستعمار في إفريقيا لا يزال "ينمو" ويترعرع بصورة تتسبب، في جزء ليس باليسير، في استمرار الانقلابات العسكرية.
فدولة مثل فرنسا، على سبيل المثال، استبدلت الاستعمار المباشر لدول غرب القارة باتفاقيات تضمن لباريس استمرار تسيير شؤون تلك الدول بما يخدم مصالحها دون أن تضطر لسداد فاتورة استمرار الاحتلال العسكري المباشر، وهي فاتورة باهظة بشرياً واقتصادياً وأخلاقياً أمام العالم.
وبالتالي فالمستعمرات السابقة تصبح بالضرورة مناطق نفوذ حالية، ومع اشتداد حالات صراع القوى الكبرى ينتقل ذلك الصراع إلى مناطق النفوذ، وهذا ما يحدث في إفريقيا خلال العقد الماضي تقريباً، في ظل سعي روسيا إلى القضاء على النفوذ الفرنسي وتمدد الصين من خلال مبادرة الحزام والطريق، ومؤخراً سعي الولايات المتحدة تحت إدارة جو بايدن لاستعادة تأثيرها المفقود في القارة السمراء.
إذ يظل الاقتصاد والموارد الطبيعية التي تتمتع بها الدول الإفريقية مربط الفرس ولب الصراع الذي لا يتوقف بين الدول الكبرى للاستفادة من تلك الثروات، بحسب غالبية المراقبين والمحللين. وعلى سبيل المثال، كان الموقف الفرنسي من انقلاب غينيا عام 2021 معبراً عن ذلك الصراع بصورة فجة.
فعندما أطاح انقلاب عسكري بالرئيس الغيني كوندي، كان الموقف الفرنسي مرتبطاً بأسباب اقتصادية غير تلك السياسية المعلنة، فالرجل فضل صداقة الصين على فرنسا، وكان يعتزم تسليم بكين رخصة استغلال أحد أكبر مناجم الحديد في العالم، بعد تنازل ملياردير فرنسي-إسرائيلي عن حقوقه فيه إثر فضيحة فساد.
نعم، أصدرت فرنسا بياناً يُندد بالانقلاب العسكري في غينيا، لكن باريس لم تفرض عقوبات أو توقف التعاون العسكري والاقتصادي مع كوناكري، مما أثار التساؤلات حول مدى تواطؤ فرنسا للإطاحة بصديق الصين.
وكانت غينيا، إحدى المستعمرات الفرنسية السابقة في إفريقيا، قد شهدت انقلاباً عسكرياً السبت 5 سبتمبر/أيلول 2021، قام به العقيد مامادي دومبويا قائد القوات الخاصة، الذي بث بنفسه بيان الانقلاب عبر الإذاعة والتلفزيون الحكومي، ليعلن اعتقال الرئيس ألفا كوندي وحلّ المؤسسات وتعطيل الدستور.
ثروات إفريقيا
القارة التي يلهث الكل وراء اقتسام ثرواتها ونهب خيراتها
وبذلك تكون غينيا هي الدولة الإفريقية الثالثة التي تشهد انقلاباً عسكرياً خلال أشهر قليلة، بعد تشاد ومالي، وجميعها مستعمرات فرنسية سابقة، وهو ما أثار تساؤلات عميقة حول ما يحدث في تلك الدول وأسبابه وتداعياته، وسط أحاديث عن صراعات بين الدول الكبرى للاستيلاء على الثروات الطبيعية الهائلة في تلك الدول.
فغينيا بلد غني بالموارد الطبيعية، تتصارع عليها دول كبرى، رغم أن عدد سكانها لا يتجاوز 14 مليون نسمة، 85% منهم مسلمون، وناتجها المحلي لا يتجاوز 12.6 مليار دولار (صندوق النقد الدولي/ 2019). لكن موقعها استراتيجي، حيث تطل على المحيط الأطلسي، ومحاذية لمنطقة الساحل الإفريقي الملتهبة أمنياً من جهة جنوب مالي، كما لا يفصلها عن موريتانيا من الجانب الأطلسي سوى غينيا بيساو والسنغال وغامبيا.
ولا تملك غينيا ثاني أكبر احتياطي من البوكسيت في العالم الذي يستخرج منه الألومنيوم وحسب، بل لديها منجم سيماندو، أحد أكبر مناجم الحديد عالمياً، وتبلغ احتياطاته 2.4 مليار طن ولا يتفوق عليه إفريقياً سوى منجم غار جبيلات بالجزائر (3.5 مليارات طن).
"فخ" الانقلابات في إفريقيا
وضع الباحثون المتخصصون في دراسة محاولة استيلاء العسكر على السلطة مصطلح "فخ الانقلابات" للإشارة إلى تداعيات تكرار محاولات الانقلاب في بلد ما على "سهولة" حدوث ذلك مقارنة بالدول غير المعتادة على الظاهرة، بحسب تقرير لدورية Africa Defense Forum.
فالدول التي تقع فيها انقلابات متكررة تكون أكثر عرضة للوقوع في هذا الفخ من غيرها، وربما ينطبق هذا المثل بصورة كبيرة على السودان وعلى النيجر أيضاً. فالسودان هو أكثر دولة في العالم شهدت انقلابات، وكان آخرها كما أسلفنا عام 2021.
والأمر نفسه ينطبق على النيجر، التي تعتبر هي الأخرى واحدة من أكثر دول العالم التي شهدت انقلابات في تاريخها المعاصر، إذ سجلت 4 انقلابات منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، فضلاً عن العديد من محاولات الانقلاب الفاشلة، كانت إحداها قبل تنصيب الرئيس محمد بازوم، الذي انقلب عليه العسكر، بيومين. ووقع آخر انقلاب في الدولة الإفريقية في فبراير/شباط 2010، وأطاح حينها بالرئيس مامادو تانجا.
وكان تولي بازوم، أول رئيس عربي ومنتخب، السلطة في أبريل/نيسان عام 2021، خلفاً للرئيس محمدو إيسوفو، في أول انتقال للسلطة من رئيس إلى آخر من خلال صناديق الانتخابات. فعلى الرغم من أن إيسوفو كان قد جاء إلى السلطة في أعقاب انقلاب عسكري عام 2010، إلا أن إيسوفو لم يلجأ إلى تعديل الدستور ليظل في الحكم كما كان متوقعاً، وفاز حليفه بازوما في الانتخابات، التي شكلت سابقة غير مألوفة في البلاد سمحت بصعود رئيس من الأقلية العربية في بلد تحكمه العصبية القبلية.
انقلاب النيجر
وبالتالي فإن النيجر كانت تعتبر "واحة" محمية من الانقلابات إلى حد كبير خلال السنوات الأخيرة بعد أن أصبحت المقر الرئيسي للقوات الغربية في غرب إفريقيا ومقراً لأكبر قاعدة أمريكية للطائرات المسيرة في القارة السمراء، إلا أن الواضح أن "لعنة فخ الانقلابات" لا تنتهي بسهولة، هذا إن انتهت.
وعلى الرغم من أنه من المبكر توقع مسار الأحداث في النيجر، في ظل استمرار الضغط على العسكر للتراجع والإفراج عن الرئيس بازوم وحكومته، إلا أن الموقف في الدولة، التي تحتل المركز الخامس عالمياً في إنتاج اليورانيوم والذي تمثل وارداته لأوروبا 25% من احتياجات القارة العجوز، لا يزال مرشحاً للتصعيد ومزيد من الاضطرابات وربما انقلابات أخرى، بحسب المراقبين.
الخلاصة هنا هي أن الإرث الاستعماري وصراع القوى الكبرى على خيرات إفريقيا وما ينتج عن ذلك من استمرار لمعدلات الفقر والجوع والمرض المرتفعة للغاية كلها أسباب تقف وراء استمرار تفشي "وباء" الانقلابات العسكرية، دون مؤشرات على انحساره على المدى القريب أو المتوسط على أقل تقدير.