نقلاً عن رصيف 22
"انتقاماً من موت طفلتي في العراق، أنجبت سبعة وعشرين طفلاً في إسبانيا وكولومبيا"، بهذه العبارة المفاجئة يفتتح الكاتب
العراقي "محسن الرملي" روايته الأخيرة "أبناء وأحذية".
بطل الرواية "أمير" شابٌ
عراقي مولعٌ بالمسرح، لكن والده الذي يعمل شرطياً، لا يوافق على رغبة ابنه في دراسة المسرح، ما يدفع بالابن إلى الدخول في
كلية الرياضة، يلتقي بعد ذلك بـ"زهراء"، والتي تشبه قصتها قصته في هذه الجزئية، إذ إنها تحب المسرح أيضاً لكن والدها يجبرها على دراسة الشريعة.
يحب الاثنان بعضهما ويزوران معهد التمثيل عدة مرات، قبل أن يتفقا على ترك كليّتيهما والانضمام إلى
الطلبة الذين يدرسون التمثيل.
تنتهي قصة الحب بين الاثنين إلى الزواج، لكن الحرب ستطيح بقصة الحب هذه، إذ يستدعى "أمير" إلى الخدمة العسكرية في أثناء حمل زوجته، ولن يراها مرة أخرى إلا وهي تلد طفلة جميلة سيقرر تسميتها "أميرة الزهراء" جامعاً اسميهما معاً، غير أن الطفلة تموت بعد ساعات من ولادتها، قاسمةً بموتها عرى هذه العلاقة.
ولعل المشهد الذي يلي موتها، وحيرة الأب الحامل لطفلته يبحث عن مكان لدفنها، من أقوى المشاهد في الرواية وأشدها تأثيراً، إذ يحتار كيف يدفنها وحين يعثر على صندوق صغير مرميّ يقرر وضعها فيه، ثم يبحث عن مكان ليواريها التراب سريعاً قبل أن تنتهي إجازته القصيرة ويعود إلى ثكنته العسكرية.
"كنت أحمل جثتها الصغيرة في صندوق أحذية كارتوني، وأسير وحيداً في الأزقة الآسنة والساحات المكتظة بالساهرين والمشرّدين والكلاب السائبة، عابراً الجسر، مفكراً في القف إلى النهر معها، متوقفاً في شارع الكتب الخالي إلا من الفئران، ومحدّثاً إياها عن ذكرى خطواتي فيه مع أمها، مروراً بمقهى أبي المفضّل، وتهنئة صاحبه لي بالحذاء الجديد، وهو لا يعلم أن الذي أحمله في تلك العلبة هو جثمان طفلتي وليس حذاء... لحظتها، تمنيت لو أنه أطلق على قلبي رصاصة بدل كلمة مبروك".
الرواية التي تجري أحداثها في ثلاثة أمكنة هي
العراق وإسبانيا وكولومبيا، ستتخذ منحى آخر بعد هذه الحادثة، إذ يتطلق الزوجان ويقرر "أمير" تغيير حياته فيسافر إلى إسبانيا حيث يقيم ابن خاله. وفي البلاد البعيدة "يهدي طفلاً لكل امرأة تحلم بالأمومة".
تتحوّل فصول الرواية إلى متابعة حثيثة لغراميات راويها، وفصلاً تلو الآخر نكتشف حكاية سبعة وعشرين طفلاً هم نتيجة هذه الغراميات وثمرتها، لكن ذلك لا يعني أننا سنكون في كل مرة أمام حكاية كيف تعرّف "أمير" بالمرأة التي ستصبح أماً لطفله فحسب، بل سنكون أمام حكاية المرأة نفسها أيضاً. هكذا نقرأ عن امرأتين مثليتي الجنس تريدان طفلاً، وعن زوجة تعاني من خيانة زوجها فتخونه بدورها، وعن فتاة خلاسية خرساء، وعن نساء يعشن بمفردهن وسط الطبيعة الكولومبية الساحرة، وعن فتاة مقاتلة تمشي على خطى "جيفارا" وتسعى مع رفاقها لتصحيح الحركة النضالية...
تحفل الرواية إذاً بتنوّع ثري في الشخصيات والأحداث، وتطرح في تنوّعها هذا الكثير من المواضيع الإنسانية وتثير مجدداً الأسئلة الوجودية: ما هو الخير وما هو الشر، هل نحن أحرار في خياراتنا أم مسيرون، ما أثر مواضينا في رسم مصائرنا، وما هو المشترك بيننا كبشر في العمق، على الرغم من اختلاف ثقافاتنا ومرجعياتنا.
تتداخل مع تلك الحكايات حكايات أخرى أيضاً، كقصة ابن الخال الذي يؤسس امبراطورية مالية في إسبانيا، وتتكشف الأحداث عن أنه يهرّب الذهب من كولومبيا، ويورّط مجموعة من الأشخاص من حوله في هذا الأمر، كما نقرأ قصة الرجل المصري "هاني" الذي يتعرف إليه "أمير" في كولومبيا، وتنشأ بينهما صداقة مهمة، وتكون نقاشاتهما حول السعادة والأديان ومعنى الحياة والحب رافداً يغذي نهر الرواية وهي تسير إلى مصبها.
شخصيات كثيرة وحكايات عديدة ومتشعبة تحفل بها الرواية، لكنها كلها تدور في فلك البطل الذي يجد متعته في إهداء الأطفال للحالمات بالأمومة من جهة، وفي إنشاء مشغلٍ لصنع أحذية الأطفال من جهة ثانية، هكذا تمضي حياته بين "أبناء وأحذية"...
"تمضي الحياة بنا دون توقف، ومع كل يوم يمر نشعر بأن وجودنا فيها يقترب من نهايته، ونحن ما زلنا لا نفهم معنى وجودنا فيها. لم تكن حياتي سوى أبناء وأحذية. أبناء وأحذية وكلاهما للآخرين وليس لي. هل سيكرهني كل أبنائي؟ (...) ربما أن إنجاب طفل هو تجديد لعقدنا مع الحياة، وإتاحة المزيد من الوقت بانتظار التوصل إلى إجابات معينة، وأنت جددت عقدك مع الحياة سبعاً وعشرين مرة، ولكنك كنت دائماً الطرف الذي لم يلتزم بهذه العقود".
المؤلف:
محسن الرملي/ العراق، الناشر: دار المدى/ بغداد - بيروت، عدد الصفحات: 196، الطبعة الأولى: 2018.
محسن الرملي كاتب وأكاديمي ومترجم
عراقي يقيم في إسبانيا. له مجموعة من الروايات أبرزها: "الفتيت المبعثر" التي فازت ترجمتها الإنكليزية بجائزة أركنساس 2002، و"تمر الأصابع" التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر 2010، و"حدائق الرئيس" التي نالت ترجمتها الإنكليزية بجائزة القلم الدولي 2016، و"ذئبة الحب والكتب" التي وصلت القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2015.
ترجمت رواياته إلى عدة لغات، من بينها الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية والبرتغالية والكردية.