وفي الواقع، كانوا من مقاتلي تنظيم "داعش" الذين نزلوا من الجبال المحيطة إلى بادوش، وكان هناك شيء واحد في أذهانهم: الانتقام.
وكان نحو 13 عنصراً يحملون السلاح ينتظرون في الخارج، سحب المقاتلون زوج خديجة وشقيقيه إلى الفناء وأطلقوا النار عليهم، تاركينهم في بركة من الدماء عقابًا لهم على تقديمهم المعلومات للجيش
العراقي.
"كيف يمكننا العيش بعد هذا؟" قالت خديجة. الأخوة الثلاثة هم معيلو العائلة بأكملها، "لقد تركوا أطفالهم وزوجاتهم وأباهم المسن الذين لا يعرفون ماذا يفعلون الآن".
خطف وكمائن
بعد مرور عام ونصف العام على إعلان هزيمة تنظيم "داعش" في العراق، ما زال مقاتلوه يثيرون الخوف في الأراضي التي كانوا يسيطرون عليها شمال
العراق. يخرج المقاتلون -الذين يختبئون في الكهوف والجبال- ليلاً لتنفيذ عمليات الخطف والقتل والكمائن على الطريق، بهدف تخويف السكان المحليين وإسكات المخبرين وممارسة عمليات الابتزاز التي موّلت صعود تنظيم "داعش" قبل ست سنوات.
إنه جزء من قتال خفي، ولكنه لا هوادة فيه بين فلول الجماعة الذين يشنون تمرداً، وقوات الأمن التي تحاول القضاء عليهم، من خلال الاعتماد على عمليات الاستخبارات، والغارات، والبحث عن خلايا نائمة بين السكان.
يتراوح عدد الإرهابيين بين خمسة آلاف وسبعة آلاف في جميع أنحاء العراق، وفقاً لمسؤول مخابرات
عراقي.
وقال الجنرال تشاد فرانكس نائب قائد العمليات والمخابرات في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة "رغم أن الأراضي التي كانت تحت سيطرة
داعش تم تحريرها بالكامل، فإن مقاتلي تنظيم الدولة ما زالوا يبدون نيتهم لممارسة النفوذ والعودة من جديد".
في البلدات القريبة من بادوش، يطرق الجنود العراقيون الأبواب في منتصف الليل بحثًا عن المشتبه بهم، بناءً على معلومات استخبارية أو حركات مشبوهة؛ يبحثون في المنازل ويأخذون الناس لاستجوابهم.
اتهامات ونفي
يُنظر إلى أي شخص على أنه متعاون أو متعاطف مع تنظيم "داعش" وفي شباط الماضي، اتهمت هيومن رايتس ووتش السلطات العراقية بتعذيب المشتبه بهم لانتزاع اعترافات بالانتماء إلى التنظيم، وهو اتهام نفته وزارة الداخلية.
ويتم اقتياد آلاف المحتجزين إلى ما يسميه النقاد محاكمات زائفة، مع أحكام سريعة -يدانون فيها دائماً- استناداً إلى عدم وجود أدلة تقريبًا غير الاعترافات أو شهادات المخبرين غير الخاضعين للمساءلة.
وتثقل تركة الذنب كاهل النساء وأطفالهن الذين يواجهون تمييزًا كبيرا بسبب أزواجهن وأقاربهن الرجال الذين يُعتبرون داعمين لتنظيم الدولة.
وتعد بلدة بادوش، الواقعة على نهر دجلة غرب مدينة الموصل، ساحة معركة رئيسية لأنها كانت ذات يوم واحدة من أقوى معاقل تنظيم "داعش".
في صيف عام 2014، كانت البلدة منصة انطلاق لهجمات المسلحين التي اجتاحت
الموصل وجزءا كبيرا من شمال العراق، وتم بناء قاعدة مالية قوية لتنظيم "داعش" هناك عن طريق ابتزاز الأموال من أصحاب العديد من المنشآت الصناعية في
بادوش. ويقدر مسؤولو الأمن أن ثلثي سكانها -الذين بلغ عددهم نحو 25 ألفا قبل المعارك- كانوا في وقت ما أعضاء أو مؤيدين للتنظيم.
الآن السكان منقسمون؛ الذين عانوا من تنظيم "داعش" أو فقدوا أحباءهم على يده يشككون في الجيران الذين يعتقدون أنهم ما زالوا يدعمون التنظيم، حتى ضمن العائلة نفسها، كان بعض أفرادها ينتمون إلى التنظيم ويعارضهم أفراد آخرون من الأسرة نفسها.
انعدام الثقة
في إحدى عمليات التفتيش، طرقت القوات العراقية باب رجل عاد إلى
بادوش قبل ذلك بيوم. كان قد فر من المدينة قبل سيطرة تنظيم "داعش" على
الموصل في صيف عام 2014 ومكث في مدينة السليمانية (شمالي العراق) طوال فترة حكمهم، لكن والده وأحد أشقائه بقي وانضم إلى "داعش".
عندما عاد الرجل، أبلغ شيخ محلي الجيش عنه على الفور. وفتش الجنود المنزل وتحققوا من سجلات هاتفه بحثًا عن أي مكالمات مريبة في الخارج.
سألوه عن والده وأخيه، فأقسم بأنهما دمرا حياته. وعندما سئل عن تنظيم "داعش"، أصر قائلا "لم التق بهم قط".
أخذه الجنود بعيداً لاستجوابه، وانفجرت أخواته الثلاث الصغيرات بالبكاء، ثم أطلق سراحه لاحقًا.
وفي مناسبة أخرى، أخبر مخبر الجيش أنه رصد أحزمة انتحارية محملة بالمتفجرات في الجبال أثناء تنزهه والبحث عن كمأ. من المفترض أنه تم إسقاطها هناك ليتمكن المسلحون من أخذها واستخدامها في الهجمات. قاد المخبر -الذي كان يغطي معظم أجزاء وجهه لمنع الكشف عن هويته- الجيش إلى المكان، حيث وجدوا الأحزمة وفجروها عن بعد.
يقول محمد فوزي، وهو ضابط مخابرات "إن الناس في المدينة متعاونون للغاية". "لكن لا تنسى أنه في أحد المنازل كان أحد أفراد الأسرة مع "داعش"، وقتل فرد آخر على يد التنظيم. إنه أمر معقد للغاية".
أعنف هجوم
ولعل من بين أكثر هجمات "داعش" التي تقشعر لها الأبدان، ذلك الذي وقع في الثالث من كانون الثاني الماضي، وقتل فيه زوج خديجة واثنان من أشقائه، ونُفذ الهجوم بحرفية كبيرة.
قال الغرباء الذين دخلوا منزل خديجة زاعمين أنهم جنود إنهم يريدون فقط طرح بعض الأسئلة ولن يستغرق الأمر وقتًا طويلاً.
شكت خديجة عبد في الأمر على الفور، وكان زوجها عناد حسين عبد واثنان من إخوته عبد المحسن ومحمد، مخبرين للجيش العراقي، وكانوا يعرفون جنود الفرقة العشرين شخصيًا، فلماذا لم يتعرفوا على هؤلاء الرجال؟
بعد تفتيش المنزل، ظهر الوجه الحقيقي لهؤلاء الغرباء، سحبوا الإخوة الثلاثة إلى الخارج وضربوهم. عندما حاولت خديجة منعهم، تعرضت للضرب أيضًا. وضعها المسلحون والزوجات الأخريات في المزرعة وأطفالهن في
غرفة وأخبروها "إذا خرج أحد، فإننا نطلق النار عليك في جبهتك".
سمعت خديجة الرجال وهم يتذمرون في الخارج حتى الساعة العاشرة مساءً، وكانوا يتحدثون بلهجة عربية لم تستطع فهمها، ثم حل الصمت. كان نباح الكلاب كل ما يسمع في المنطقة، اعتقدت خديجة أن المسلحين أخذوا الأشقاء الثلاثة بعيدا.
وعند الفجر، ذهبت لجلب الماء من البئر، وشاهدت الأكمام الصفراء لزوجها في العشب. كان الأشقاء الثلاثة على الأرض مضرجين بالدماء، حيث استخدم المسلحون كواتم الصوت، لذا لم تسمع الأسرة إطلاق النار مطلقًا.
وبشكل غريزي بحثت خديجة عن هاتف محمول لطلب المساعدة، قالت "بصراحة، لم أستطع حتى البكاء، لم أبك أو أصرخ".
تستذكر الهجوم في أحلامها، وكيف صرخت بناتها "أبي! أبي!" عندما رأين جثته، وكيف حاولت إحداهن إخراج رصاصة من خد والدها الميت. وقالت لأمها "الرصاصة لا تخرج". ابنها الآن خائف للغاية من مغادرة غرفته. وتقول خديجة بالنسبة للأطفال فإن الجيش هو الذي قتل والدهم، "إنهم لا يفهمون أي شيء يحدث".