قد تكون الولايات
المتحدة قد توقفت عن إمطار
العراق بالقذائف، غير أن أجساد الأجيال المتعاقبة في
العراق لا تزال موسومة بآثار هذه الحرب: تشوهات خلقيّة، أمراض غريبة ونسب سرطان بالغة الارتفاع.
أكد مراسل الجزيرة ضاهر جميل أن التلوثّ الناتج عن الأسلحة الأميركيّة، وبخاصة ذخائر اليورانيوم المستنفذ أدى إلى كارثة صحيّة حقيقيّة في
العراق. فوضح قائلاً: "يولد بعض الأطفال
العراقيين برأسَين أو بعين واحدة، وبعضهم يصاب بعدد من الأورام أو التشوهات على مستوى الوجه وبنية الجسم بالإضافة إلى عدد من المشاكل المعقدة في الجهاز العصبي". هذه ليست سوى غيض من فيض التشوهات الخلقيّة مترتبة عن التلوّث الناتج عن الأعمال العسكريّة.
في بعض المدن العراقيّة، تعتبر الارتدادات
الصحية أسوأ بكثير من تلك التي ظهرت
بعيد إلقاء القنابل الذرّية على اليابان في نهاية الحرب العالميّة الثانية.
تظهر النسب الأعلى في محافظة الفلوجة التي تعرّضت إلى حملتَين صاروخيتَين كبيرتَين في العام 2004 في خلال الغزو الأميركيّ للعراق. وعلى الرغم من أن أميركا أنكرت هذا الاعتداء في بادئ الأمر، غير أنها اعترفت رسميّاً باستعمال مادة الفسفور الأبيض. بالإضافة إلى ذلك، ألقت الولايات
المتحدة وبريطانيا ما يعادل ألفيّ طنّ من ذخائر اليورانيوم المستنفذ على مدن سكنيّة في
العراق في العام 2003.
اليورانيوم المستنفذ أو المنضّب هو معدن ثقيل وسام كميائيّاً يصنّف في خانة النفايات النوويّة. وتستعمل هذه المادة كسلاح بسبب قدرتها على اختراق الدروع. لهذا السبب بالتحديد رفضت بريطانيا وأميركا (بالإضافة إلى فرنسا وإسرائيل) توقيع المعاهدة الدوليّة للحد من استعمال اليورانيوم المستنفذ، مشددين أن هذه المادة غير سامة، وليذهب العلم إلى الجحيم. وفي الوقت عينه، أدى رفض وزارة الدفاع الأميركيّة "البنتاغون" التصريح عن الأماكن التي أُطلقت فيها هذه الذخائر إلى مواجهة صعوبة في تنظيفها.
أما اليوم، فحوالي 14،7 بالمئة من أطفال الفلوجة يولدون مشوهين أي أكثر بأربع عشرة مرة من النسب المسجلة في هيروشيما وناغازاكي. ويعاني أطفال الفلوجة تشوهات قلبيّة أكثر بثلاث عشرة مرّة من النسب المسجلة في أوروبا ومشاكل في الجهاز العصبي أكثر بثلاث وثلاثين مرّة بالمقارنة مع أوروبا. وما يزيد الطين بلّة هو ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان لدى الأطفال بحوالي 12 ضعفاً منذ العام 2004. ومن جهة أخرى، أضحت نسبة الذكور للإناث 86 صبيّاً لكل 100 فتاة، مما يدل إلى أن الضرر الجيني أثّر على الذكور أكثر منه على الإناث.
إذا اعتبرنا أن الفلوجة هي هيروشيما
العراق فالبصرة هي ناغازاكي.
بحسب دراسة صدرت في نشرة التلوثّ البيئي وعلم السموم لصحافي متخصص مقره في جنوب غرب مدينة هايدلبيرغ الألمانية، فإن عدد التشوهات الخلقيّة في البصرة أرتفع 7 مرات ما بين 1994 و2003.
ووفقاً لدراسة هايدلبيرغ، سجل تركيز الرصاص في أسنان الحليب لدى أطفال البصرة نسبة أعلى بثلاث مرات من النسب المسجلة في المناطق التي لم تشهد اقتتال.
لم يسجّل في أي وقت سابق نسبة تشوه في الأنابيب العصبيّة بهذا الارتفاع في البصرة ولا تزال هذه المعدلات تزداد. وبحسب الدراسة، بلغ عدد حالات مَوَه الدماغ لدى حديثي الولادة في البصرة ستة أضعاف الحالات في الولايات
المتحدة.
لا يقتصر هذا الأمر على الفلوجة والبصرة فحسب، ففي كافة أنحاء العراق، شهدت معدلات الإصابة بالسرطان ارتفاعاً مخيفاً. ووفقاً للاحصائيات الحكوميّة العراقيّة، يظهر أن قبل اندلاع حرب الخليج الأولى في العام 1991، كانت نسبة الإصابة بالسرطان 40 على مئة ألف شخص. بحلول العام 1995، ارتفعت لتبلغ 800 على مئة ألف. أما في العام 2005، تضاعفت النسبة لتسجل 1600 على مئة ألف، وتشير التوقعات الحالية أن هذه الأرقام ستستمر بالارتفاع.
تلفت الصحافية سوزي كاغل من موقع غريست إلى أن "أرقام الإصابة بالسرطان ارتفعت بحوالي 4000 مرّة في
العراق أي أكثر بـ500 مرّة من معدل الإصابة المسجل في الولايات المتحدة".
أما الدكتورة موزغان صفابي أصفهاني، الأختصاصيّة بالسموم البيئيّة المتمركزة في آن أربور، ميشيغن فصرحت لجميل قائلة: "تظهر كل هذه الملاحظات وجود كارثة صحية هائلة في
العراق. وتتطلب أزمة كهذه تحرّكاً دوليّاً متعدد الأوجه للحؤول دون ألحاق ضرر إضافيّ بالصحة العامة في العراق".
ولكن المجتمع الدوليّ المسؤول بشكل أساسيّ عن المشاكل الصحيّة، يتجاهل هذا الوضع الصارخ. ومما يزيد الوضع سوءاً هو أن النظام الصحيّ في
العراق الذي كان الأفضل في المنطقة، أصبح اليوم شبه غائب، بسبب هجرة معظم الأطباء من
العراق منذ 2003. وفقاً لتقديرات حديثة، يتواجد في
العراق ما لا يزيد على 100 معالج نفسي و20 ألف طبيب ليلبوا حاجات أكثر من 31 مليون
عراقي.